نبيل شبيب يكتب من ألمانيا: تفاصيل جديدة عن مصرع مروة الشربينى.. ضحية أجواء العداء للعرب والمسلمين فى أوروبا اثنتان وثلاثون ثانية مضت ما بين إقدام القاضى على قرع جرس الخطر، وبين إسراع رجال الشرطة للإمساك بالقاتل، ولكن كانت كافية لينفذ جريمته، فقد أجهز خلالها بثمانية عشر طعنة بالسكين على حياة مروة الشربينى البالغة 32 عاما من العمر، فقتلها وهى حامل بالشهر الثالث، وأصاب ابنها مصطفى (دون الرابعة من العمر) بجروح، كما أصاب زوجها بجراح خطيرة، إضافة إلى إصابته فى ساقه نتيجة رصاصة طائشة من جانب رجال الشرطة.
مصطفى.. من ملعب أطفال إلى فقد أمه
الآن فقط أدرك المحققون ـ كما نقلت الصحافة الألمانية عنهم ـ أن الجانى، ويُدعى آلكس، كان "قنبلة موقوتة" على حد تعبير أحدهم، وأن المحاكمة لم تكن مجرد خلاف قضائى بسيط، ودعوى معتادة نسبيا للتعويض بغرامة مالية على إهانات سابقة.
كانت البداية فى خريف 2008، فى ملعب للأطفال، بمدينة درسدن شرق ألمانيا، وكان الرجل يسلّى طفلة من أقاربه بأرجوحة للأطفال، ورأت مروة أن الطفلة الصغيرة فى مثل عمر ابنها مصطفى، فسألت الرجل أن يجلسا معا فى الأرجوحة بعد أن طال مقام الطفلة فيها، وربما كانت مروة تفكر أن تلك صورة من صور التواصل والاندماج الذى لا يغيب الحديث عنه بشأن المسلمين فى ألمانيا، وبدلا من أن تتلقى جوابا بالقبول أو الاعتذار، بدأ الرجل يكيل لها الشتائم، وصدر بحقه لهذا السبب حكم سابق بغرامة مالية بقيمة 780 يورو بسبب الإهانات، وانتقلت القضية إلى محكمة الاستئناف بناء على طلب الجانى، فقد بقى خلال المحكمة الأولى والثانية غير قادر على استيعاب أن عليه دفع غرامة ما.. إنما كان هادئا كما يؤكد المسئولون فى المحكمة، لا ينذر وضعه العام بأنه سيرتكب جريمة ما، وربما كان فى هذا الوصف نوع من التبرئة الذاتية أنه دخل المحكمة والسكين فى طيات ثيابه، بينما تجدد الجدل فى هذه الأثناء حول القوانين المتعلقة بتأمين المحاكم، فالسكين التى أدخلها الجانى معه تشير إلى أن القانون لا يفرض إجراءات تفتيش ما فى محاكمات شبه اعتيادية، لا ينتظر أن يحدث فيها ما حدث من جريمة دموية فى هذه المحكمة.
وتميز قوانين العقوبات فى ألمانيا بين القتل عن سابق عمد وإصرار، وهنا لا بد من تقديم البرهان على أن الجريمة مخطط لها، ومن ذلك إثبات أن الجانى أدخل أداة الجريمة إلى قاعة المحكمة بغرض القتل، وبين القتل كردة فعل فى لحظة غضب، رغم أنه ارتكب جريمته بعد أن أدلت مروة بأقوالها، ولم يصدر حكم الاستئناف بعد، هذا فضلا عن قابلية اعتبار الجريمة من قبيل اعتداء أفضى إلى القتل دون قصد، ومن وسائل تخفيف العقوبة أيضا شهادة طبية تثبت أن الجانى مصاب بحالة نفسانية مرضية ساعة ارتكابه جريمته.
سيان ما ستكون الحصيلة، وما الحكم الذى سيصدر على الجانى، فلن يعيد ذلك الحياة لمروة، ولن يزيل الألم والأسى من قلوب ذويها ومن عرفها.
الجريمة.. وأجواء العداء للإسلام
لئن كانت الجريمة حادثة قائمة بذاتها من الناحية القانونية، فلا يمكن اعتبارها منفصلة عن الخلفية الاجتماعية والثقافية والإعلامية والسياسية المرتبطة بها بشأن وجود الإسلام والمسلمين فى ألمانيا، وفى الغرب عموما، وعن آثار حقبة الإرهاب الفكرى والاجتماعى وحتى التشريعى فى نطاق ما سمى "الحرب ضد الإرهاب" وشمل الحروب الدموية الاستباقية المدمرة، والحملات السياسية والإعلامية المتواصلة، كما شمل ما يمكن وصفه بالإجراءات الاستباقية على صعيد تشريع القوانين الاستثنائية - كما توصف - وجميعها يدور حول محور متابعة المسلمين ومحاصرة مظاهر التزامهم بالإسلام، وأخذ كثير منهم بالشبهة.. وجميع ذلك باسم مكافحة الإرهاب، حتى أصبحت مكافحته بحد ذاتها ممارسات إرهابية.
مروة من جهة وآلكس من جهة أخرى، صورتان متقابلتان معبرتان عن حصيلة تلك الحقبة، فلم تكن الشابة المصرية مع أسرتها، قريبة من تلك الصور النمطية المعمّمة عن المسلمين والمسلمات لتسويغ ما يتخذ من إجراءات أو ينطلق من حملات ضدهم، بل كانت واحدة من الملايين من أمثالها، من الأكثرية الكبرى للمسلمين فى الغرب، الذين أصبحوا جزءا ثابتا من المجتمعات الغربية.
ولئن كان يسرى على مروة أنها من الوافدين بإقامة مؤقتة مرافقة لزوجها المقيم إقامة مؤقتة أيضا بغرض التخصص الدراسى، فإن النسبة الأعظم من المسلمين فى الغرب هم فى هذه الأثناء من معتنقى الإسلام من أهل البلاد الأصليين، ومن المواليد المسلمين فى الغرب ممن عرفوا الغرب موطنا ولم يعرفوا مواطن آبائهم أو أجدادهم الأصلية، فضلا عن فريق من المسلمين مضى على وجوده فى الغرب عشرات السنين، ولا يبقى من الوافدين بسبب دراسة أو عمل أو حتى لجوء وهجرة، سوى نسبة محدودة.
وقد كانت مروة وزوجها يعيشان مع طفلهما فى درسدن، اعتمادا على منحة دراسية، إذ كان يحضر لرسالة الدكتوراة فى علم الأحياء الجزيئيى للخلايا فى معهد ماكس بلانك المرموق عالميا، وكانت مروة تعمل فى إحدى الصيدليات.
أما الصوة المقابلة للمتطرفين فيمثلها القاتل آلكسى وإن لم يعرف عنه انتماء إلى منظمة متطرفة، وهو شبه أجنبى فى ألمانيا واقعيا، فقد ولد فى روسيا فى عائلة من أصول ألمانية، وهاجر إلى ألمانيا عام 2003م، ولم يحمل شهادة مدرسية، إذ لم يستطع إكمال دراسته، واشتغل عاملا دون كفاءات أو مهارات تذكر فى أحد المخازن، وعاش فى ألمانيا على المعونة الاجتماعية.
أما تطرفه ضد الإسلام وأهله ومظاهره، فلا أحد يعرف – أو هكذا يقول المحققون حتى الآن- هل أتى به معه من روسيا أم اكتسبه فى ألمانيا، وهل يرتبط بوضعه الاجتماعى أم يرتبط بالأجواء التى صنعها التحامل على الإسلام حديثا والموروث من معاداته تاريخيا؟ إلا أن شتائمه التى أطلقها على مروة وحجابها تردّد ما هو معروف من أوساط المتطرفين المعادين لكل ما يحمل مواصفات أجنبى، والمتصاعدة ضد كل ما هو إسلامى، وقد كان مما وصفها به أنها "إسلامية إرهابية"، مما ينسجم مع ما لا ينقطع ذكره فى وسائل الإعلام، وينشر الشبهة التعميمية، أن كل من هو مسلم، لابد أن يكون إرهابيا، أو مساندا للإرهاب، أو من الخلايا النائمة.
وصحيح أنه انطلقت حملات التوعية من داخل المجتمع الألمانى، وبمشاركة كثير من المسلمين وقد ناهز تعدادهم فيه 4 ملايين ونصف المليون، أكثر من نصفهم من أهل البلاد الأصليين أو المتجنسين، ولكن مفعول هذه الحملات لم يصل إلى أوساط المتطرفين، لا سيما عندما يتلاقى التطرف مع سوء الأحوال المعيشية، نتيجة ازدياد انتشار البطالة والفقر فى ألمانيا على نطاق واسع، والدعاية اليمينية المتطرفة منذ تسعينيات القرن الميلادى العشرين، ومنها أن الأجانب يحتلون أماكن عمل العاطلين من الألمان، وهو كلام مردود بالأرقام، ولكنه ليس موضوع الحديث هنا، سوى من حيث الإشارة إلى أن آلكس القاتل كان عاطلا عن العمل، يعيش على المعونة الاجتماعية من الدولة بأدنى مستوياتها، إضافة إلى أن انتشار الفكر العنصرى اليمينى فى شرق ألمانيا أوسع نطاقا منه فى غربها، رغم أن نسبة الأجانب أو ذوى الأصول الأجنبية مرتفعة فى غرب البلاد وليس فى شرقها.
ضحايا لا ناقة لهم ولا جمل
لم يكن ضعف الاهتمام الإعلامى فى ألمانيا بهذه الجريمة مستغربا، وقد انعكس فى اقتصار معظم وسائل الإعلام على نقل الخبر مختصرا دون ربطه بخلفية عداء عنصرى، بل يمكن القول بسعى بعض وسائل الإعلام لاستبعاد ذلك، وقد تكون الحجج الواردة بهذا الصدد صحيحة من حيث عدم ارتباط الجانى بتنظيم ما، إنما لا تصح هذه الصورة عند النظر فى علاقة الحادثة بالأجواء العامة السائدة بفعل حملات السنوات القليلة الماضية، والتى ساهمت فى "تسييس" قضية الحجاب من جانب أوساط علمانية أصولية، وبعضها فى مناصب توجيه إعلامية وحزبية وسياسية، تارة بالتركيز على أن الحجاب رمز وليس فريضة، وأخرى بالقول إنه تعبير عن اضطهاد المرأة رغم تناقض هذا القول مع حقيقة انتشاره طوعا، وتارة ثالثة من خلال استصدار قوانين تحظره على فتيات المدارس وفى الدوائر العامة كما فى فرنسا، أو على المدرسات المسلمات فى ألمانيا.
حملات التطرف العنصرية اليمينية من تسعينيات القرن الميلادى العشرين وما رافقها من اعتداءات مباشرة على المسلمين عموما وعلى مساجدهم ومنشآتهم لم تعد جزءا من الواقع الألمانى فى الوقت الحاضر، فالخشية من تحولها إلى صدامات اجتماعية كبرى لعبت دورها فى تنامى المعارضة الشعبية، وبالتالى عزلة التطرف العنصرى، إنما كان ربط الإسلام بالإرهاب فى الأعوام الثمانية الماضية على الأقل وريث تلك الحقبة، وهنا لا تصدر الحملات عن مجموعات وتنظيمات عنصرية أو متطرفة، وإنما عن أجهزة وأوساط سياسية وإعلامية وفكرية.
الآن فقط.. أى بعد أن ظهرت الحصيلة الأولية للحروب الأمريكية، ازدادت ردود الفعل المضادة، وبدأ كثير من المفكرين ينشر من مواقف الإنصاف والتوعية، ما يمكن اعتباره نواة لتبدل الأجواء العامة مستقبلا فى اتجاه إيجابى. إنما لا يمكن انتظار حدوث تحول واسع النطاق قبل مرور سنين عديدة، وإلى ذلك الحين ستبقى الجولات مستمرة، وهى أقرب إلى جولات فئات متطرفة من الجانبين وحملات عداء وعداء مضاد، تقتصر فى واقعها على نسبة محدودة يمكن وصفها بالأصوليين العلمانيين فى الغرب، إنما تملك التأثير أكثر من سواها بحكم وجود كثير من هؤلاء فى مفاصل صناعة القرار الإعلامى والفكرى والثقافى، ويقابل هؤلاء من يمكن وصفهم بالمتشددين والمتطرفين فى التعامل مع الآخر باسم الإسلام، وهؤلاء أيضا يرتفع صوتهم وإن كانوا قلة، بسبب نوعية ما يقومون به من أنشطة مثيرة.. علاوة على أن كلا من الطرفين، يعطى الحجة للطرف الآخر بممارساته، ويدعمه واقعيا عبر الدعاية غير المباشرة له من خلال التهويل من شأنه والتركيز عليه، بدلا من التركيز على الغالبية التى توصف بالصامتة عادة، هنا وهناك.
وإلى أن تنحسر موجة العداء وأجواؤها، سيبقى الضحايا من هذه الغالبية الصامتة فى الدرجة الأولى، ويحز فى النفس أن تكون مروة من هؤلاء الضحايا.